سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قوله: {أَرَأَيْتُكُم} الكاف والميم عند البصريين للخطاب، ولا حظ لهما في الإعراب، وهو اختيار الزجاج.
وقال الكسائي والفراء وغيرهما: إن الكاف والميم في محل نصب بوقوع الرؤية عليهما. والمعنى: أرأيتم أنفسكم. قال في الكشاف مرجحاً للمذهب الأوّل: إنه لا محل للضمير الثاني، يعني الكاف من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيداً ما شأنه، وهو خلف من القول انتهى. والمعنى: أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} كما أتى غيركم من الأمم {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} أي القيامة {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ، أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها، أم تدعون الله سبحانه؟ وقوله: {إِن كُنتُمْ صادقين} تأكيد لذلك التوبيخ، أي أغير الله من الأصنام تدعون إن كنتم صادقين أن أصنامكم تضرّ وتنفع، وأنها آلهة كما تزعمون.
قوله: {بَلْ إياه تَدْعُونَ} معطوف على منفيّ مقدّر، أي لا تدعون غيره، بل إياه تخصون بالدعاء {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي فيكشف عنكم ما تدعونه إلى كشفه إن شاء أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك. قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي وتنسون عند أن يأتيكم العذاب ما تشركون به تعالى، أي ما تجعلونه شريكاً له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها، ولا ترجون كشف ما بكم منها، بل تعرضون عنها إعراض الناس.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: وتتركون ما تشركون.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي ولقد أرسلنا إلى أمم كائنة من قبلك رسلاً فكذبوهم {فأخذناهم بالبأساء والضراء} أي البؤس والضرّ. وقيل: البأساء المصائب في الأموال، والضراء المصائب في الأبدان، وبه قال الأكثر {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي يدعون الله بضراعة، مأخوذ من الضراعة وهي الذلّ، يقال: ضرع فهو ضارع، ومنه قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح
قوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لكنهم لم يتضرعوا، وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمرّدهم وغلوّهم في الكفر، ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرّعوا عند أن نزل بهم العذاب، وذلك تضرّع ضروري لم يصدر عن إخلاص، فهو غير نافع لصاحبه، والأول أولى، كما يدل عليه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي صلبت وغلظت {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي.
قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي: تركوا ما ذكروا به، أو أعرضوا عما ذكروا به، لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به، إذ ليس هو من فعلهم، وبه قال ابن عباس، وابن جريج، وأبو علي الفارسي.
والمعنى: أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضرّاء وأعرضوا عن ذلك {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ} أي لما نسوا ما ذكروا به استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} من الخير على أنواعه فرح بطر وأشر وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقاً وصواباً {أخذناهم بَغْتَةً} أي فجأة وهم غير مترقبين لذلك والبغتة: الأخذ على غرّة من غير تقدمة أمارة، وهي مصدر في موضع الحال، لا يقاس عليها عند سيبويه. قوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} المبلس: الحزين الآيس من الخير لشدّة ما نزل به من سوء الحال، ومن ذلك اشتق اسم إبليس، يقال أبلس الرجل إذا سكت، وأبلست الناقة إذا لم ترع. قال العجاج:
صاح هل تعرف رسما مكرسا *** قال نعم أعرفه وأبلسا
أي تحول لهول ما رأى، والمعنى: فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح. قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} الدابر الآخر، يقال دبر القوم يدبرهم دبراً: إذا كان آخرهم في المجيء، والمعنى: أنه قطع آخرهم أي استؤصلوا جميعاً حتى آخرهم. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت:
فأهلكوا بعذاب حص دابرهم *** فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا
ومنه التدبير؛ لأنه إحكام عواقب الأمور. قوله: {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أي على هلاكهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، فإنهم أشدّ على عباد الله من كل شديد، اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين، واقطع دابرهم، وأبدلهم بالعدل الشامل لهم.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله: {فأخذناهم بالبأساء والضراء} قال: خوف السلطان وغلاء السعر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} قال: يعني تركوا ما ذكروا به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} قال: ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوه وردّوه عليهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ} قال: رخاء الدنيا ويسرها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي، في قوله: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} قال: من الرزق {أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} قال: مهلكون متغير حالهم {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} يقول: فقطع أصل الذين ظلموا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن محمد بن النضر الحارثي في قوله: {أخذناهم بَغْتَةً} قال: أمهلوا عشرين سنة، ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع، وإلا فهو كلام لا طائل تحته.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد قال: المبلس المجهود المكروب الذي قد نزل به الشرّ الذي لا يدفعه، والمبلس أشدّ من المستكين، وفي قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم والذين ظَلَمُواْ} قال: استؤصلوا.


هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم، ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر، ولهذا جمعه. والختم: الطبع، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة، والمراد: أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح نفسها، والاستفهام في {مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} للتوبيخ، و{من} مبتدأ. و{إله} خبره، و{غير الله} صفة للخبر، ووحد الضمير في {به} مع أن المرجع متعدد على معنى: فمن يأتيكم بذلك المأخوذ أو المذكور، وقيل: الضمير راجع إلى أحد هذه المذكورات. وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة، أي يأتيكم بذلك المذكور، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر في تصريف الآيات، وعدم قبولهم لها تعجيباً له من ذلك، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة، تارة إنذار وتارة إعذار، وتارة ترغيب، وتارة ترهيب.
وقوله: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} عطف على نصرف، ومعنى يصدفون: يعرضون، يقال: صدف عن الشيء: إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي أخبروني عن ذلك، وقد تقدّم تفسير البغتة قريباً أنها الفجأة. قال الكسائي: بغتهم يبغتهم بغتا وبغتة: إذا أتاهم فجأة، أي من دون تقديم مقدّمات تدل على العذاب. والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه. وقيل البغتة: إتيان العذاب ليلاً، والجهرة: إتيان العذاب نهاراً كما في قوله تعالى: {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 50]. {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} الاستفهام للتقرير، أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا القوم الظالمون. وقرئ: {يهلك} على البناء للفاعل. قال الزجاج: معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم؟ انتهى.
قوله: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل، أي مبشرين لمن أطاعهم بما أعدّ الله له من الجزاء العظيم، ومنذرين لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل. وقيل: مبشرين في الدنيا بسعة الرزق وفي الآخرة بالثواب، ومنذرين مخوّفين بالعقاب، وهما حالان مقدرّتان، أي ما نرسلهم إلا مقدّرين تبشيرهم وإنذارهم {فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ} أي آمن بما جاءت به الرسل {وَأَصْلَحَ} حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بوجه من الوجوه {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بحال من الأحوال، هذا حال من آمن وأصلح، وأما حال المكذبين فهو أنه يمسهم العذاب بسبب فسقهم، أي خروجهم عن التصديق والطاعة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {يَصْدِفُونَ} قال: يعدلون.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهداً، في قوله: {يَصْدِفُونَ} قال: يعرضون، وقال في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً} قال: فجأة آمنين، أو جهرة، قال: وهم ينظرون.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب.


أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان، أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء ويقول لهم: إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به ويعرّفهم بما سيكون في مستقبل الدهر {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة مالا يطيقه البشر. وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.
وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم، ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية. بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، «ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} أي ما أتبع إلا ما يوحيه الله إليّ.
وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية، والمسألة مدوّنة في الأصول والأدلة عليها معروفة.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوتيت القرآن ومثله معه» {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} هذا الاستفهام للإنكار، والمراد: أنه لا يستوي الضالّ والمهتدي، أو المسلم الكافر أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل: {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما، فإنه بين لا يلتبس على من له أدنى عقل، وأقلّ تفكر.
قوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} الإنذار: الإعلام، والضمير في به راجع إلى {ما يوحى}؛ وقيل إلى {الله}؛ وقيل إلى {اليوم الآخر}. وخص الذين يخافون أن يحشروا، لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حلّ بهم من الخوف، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك. قيل ومعنى يخافون: يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون، فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين، وأهل الذمة، وبعض المشركين. وقيل: معنى الخوف على حقيقته، والمعنى: أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكره، وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل، لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع. قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} الجملة في محل نصب على الحال أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا وليّ لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم من دون الله، وفيه ردّ على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون.
قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الدعاء العبادة مطلقاً. وقيل: المحافظة على صلاة الجماعة. وقيل: الذكر وقراءة القرآن. وقيل: المراد الدعاء لله بجلب النفع ودفع الضرر. قيل: والمراد بذكر الغداة والعشيّ الدوام على ذلك والاستمرار. وقيل: هو على ظاهره، و{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} في محل نصب على الحال. والمعنى: أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى، أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره.
قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَئ} هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد، أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على أنفسهم ما عليك منه شيء، وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم؟ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: {مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عزّ وجلّ بالعبادة والإخلاص؟! وهذا هو مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39]. وقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى} [الشعراء: 113]. قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ} وهو من تمام الاعتراض، أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، و{من} في {ما عليك من حسابهم من شيء} للتبعيض، والثانية للتوكيد. وكذا في {ما من حسابك عليهم من شيء}.
قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب للنهي أعني {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك. وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. وقيل: إن {فتكون من الظالمين} معطوف على {فتطردهم} على طريق التسبب، والأوّل أولى.
قوله: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي مثل ذلك الفتن العظيم فتنا بعض الناس ببعض، والفتنة الإختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين، واللام في {لّيَقُولواْ} للعاقبة، أي ليقول البعض الأوّل مشيرين إلى البعض الثاني {أهؤلاء} الذين {مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا. قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال كيف فتنوا ليقولوا هذا القول؟ وهو إن كان على طريقة الإنكار كفر، وأجاب بجوابين: الأوّل: أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار؛ والثاني: أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبة هذا القوم منهم كقوله: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. قوله: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} هذا الاستفهام للتقرير. والمعنى: أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر، وهو أعلم بالشاكرين له، فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل.
قوله: {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين، كما سيأتي بيانه: {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييباً لخواطرهم، وإكراماً لهم. والسلام، والسلامة: بمعنى واحد، فمعنى سلام عليكم: سلمكم الله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام. وقيل: إن هذا السلام هو من جهة الله، أي أبلغهم منا السلام. قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. قيل: هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله، وعظيم رحمته.
قوله: {أَنَّهُ من عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ} قرأ ابن عامر، وعاصم، ونافع بفتح {أن} من {أنه} وقرأ الباقون بكسرها. فعلى القراءة الأولى: تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة، أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره. وعلى القراءة الثانية: تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف وموضع بجهالة النصب على الحال، أي عمله وهو جاهل. قيل: والمعنى أنه فعل فعل الجاهلين؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه، فقد فعل فعل أهل الجهل والسفه، لا فعل أهل الحكمة والتدبير. وقيل المعنى: أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة، فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر.
قوله: {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد عمله {وَأَصْلَحَ} ما أفسده بالمعصية، فراجع الصواب وعمل الطاعة {فَإنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قرأ ابن عامر، وعاصم، بفتح الهمزة من {فإنه} وقرأ الباقون بالكسر. فعلى القراءة الأولى تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي فأمره أن الله غفور رحيم، وهذا اختيار سيبويه، واختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء، والخبر مضمر، كأنه قيل: فله {أَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء. وأما على القراءة الثانية: فالجملة مستأنفة.
قوله: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات} أي مثل ذلك التفصيل نفصلها، والتفصيل التبيين، والمعنى: أن الله فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبين لهم حكم كل طائفة. قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين}. قال الكوفيون: هو معطوف على مقدّر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين.
قال النحاس: وهذا الحذف لا يحتاج إليه. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى. قرئ: {لتستبين} بالفوقية والتحتية، فالخطاب على الفوقية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتستبين يا محمد سبيل المجرمين، وسبيل منصوب على قراءة نافع. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وحفص بالرفع، فالفعل مسند إلى سبيل وأما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل أيضاً، وهي قراءة حمزة والكسائي وشعبة بالرفع، وإذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} قال: الأعمى الكافر، الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، والبصير: العبد المؤمن، الذي أبصر بصراً نافعاً فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما أتاه الله.
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أنحن نكون تبعاً لهؤلاء، اطردهم عنا فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله فيهم القرآن {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ بالظالمين}.
وقد أخرج هذا السبب مطوّلاً ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة، وفيه: إن الذين جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، والحارث بن عامر بن نوفل، ومطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف.
وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل، عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فذكر نحو حديث عبد الله بن مسعود مطوّلاً. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر.
وأخرج مسلم والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود، وبلال، ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى}.
وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {بالغداة والعشى} قال: يعني الصلاة المكتوبة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: الصلاة المكتوبة الصبح والعصر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم النخعي في الآية قال: هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر. قال سفيان: أي أهل الفقه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} يعني: أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} يعني: أهؤلاء هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {أهؤلاء الذين مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أي لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما ردّ عليهم شيئاً فانصرفوا، فأنزل الله: {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} الآية، فدعاهم فقرأها عليهم.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن قوله: {سلام عَلَيْكُمُ} كانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم بدأهم بالسلام، فقال: {سلام عَلَيْكُمُ} وإذا لقيهم فكذلك أيضاً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات} قال: نبين الآيات.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8